الشاعر ليس صعلوكاً... وليس تلميذاً عند أحد

من مشهد امرأةٍ تبيع الورد على إشارات المرور.. ومن صورة لوردةٍ هنا في كتاب, أتت من يد رجلٍ حصل سرّاً على جواز عبور إلى مخابئ الورد في بلدان ترقص سيّداتها سحراً بأغنيات الشعراء القادمين من الشرق, والشرقُ بعيد جدّاً, ويقترب أكثر في قصيدة لم تكن دمشقيّة, بل أحضرت دمشق المكان إلى القلب والنبض والروح.. مع الإعلامي والشاعر إبراهيم الجبين كان للهدوء طغيان الحضور, ولنا قال كلماتٍ من القلب..

¶الأمكنة حاضرة جداً في قصائد مجموعتك الشعرية الجديدة «تنفّس هواءها عنّي», واستطعت أن تحضر القارئ إليها.. ما سرّ ارتباطك بالأمكنة؟
المكان هو شريك حيّ وحاضر دائماً. المكان ليس مجرد موجود أو مجرد إحداثيات.. المكان أقوى من الزمان.. لأنَّ المكان صاحب طاقة وله تأثير فينا، ونحن موجودون فيه أو قربه، وممكن أن يجذبنا أو ينفرنا.. فأغلب أمكنة القصائد كانت أمكنة من دمشق.. المكان لا يمكن فكّ العلاقة معه, لأنه مثل الشيفرة الوراثية والجينات.. دمشق كمكان تأتي من الثقافة السمعية, والكثير من الأمكنة والأحياء, لذلك ذكرت منذ قليل أنني طوّرت تجربتي مع ثقافة الأذن, فأنا لا أكتفي بوصفة جاهزة آتية عبر الثقافة السمعية, بل أعيش الأماكن.. الاهتمام بالمكان ليس بحثاً استشراقيّاً.. نحن نتعامل مع أماكننا كمستشرقين. أنا لم أتعامل هكذا مع الموضوع, بل اعتبرت الأمر وكأنّني ولدت في بيت, وأنا أحبو باتجاه مكاني الخاص، أريد استكشافه من نوعية الحجر إلى طريقة امتداد الأقواس واتجاهاتها, وبحثت في المكان جيداً؛ لا لأتوصَّل إلى نتائج، بل لأقول إنني أبحث في المكان, ولأستمتع في البحث.. وفي النهاية، من الممكن ألا تكون هناك نتيجة, وربما من الصحيح ألا تكون هناك نتيجة من أجل أن يستمرَّ الناس في البحث..

¶ أنا أرى بوجود نتائج حتماً, فديوانك الذي أمامي الآن هو نتيجة..
لا توجد نتيجة لأنَّ العين تختلف.. فإن رأيتِ أنت هذا الديوان نتيجة، فأنا لا أراه كذلك، بل أراه دعوة إلى البحث.. فأنتِ كتبت في مقالتك عن الديوان أنك «اشتقت بعد القراءة إلى الصعود إلى قاسيون», فهذا كان نوعاً من تلك الدعوة إلى البحث التي تحدَّثت عنها...

¶ هل تشعر بالغربة مع روحك؟
طبعاً، وبكلِّ بساطة.. عندي محاولة للتفسير, نحن دائماً أسرع من أنفسنا, نحن نسبق حالنا بمعنى الحال.. الآن نحن في اللحظة التي نشعر فيها أننا هنا الآن فيمكن أن نكون في مكان آخر, شيء فيزيائي..

¶ أنا لا أنظر إلى الموضوع فيزيائيّاً بقدر ما هو أقرب إلى الروح, الغربة تمسّ الروح وتجرحها أيضاً, فكيف يمكن أن نتخيّل بعض اللحظات التي نعيشها بغربة مع أنفسنا, إذاً يوجد مشكلة في الحياة..؟
ليس بعض اللحظات، بل كل اللحظات هي غربة مع نفسي.. المشكلة ليست مع الحياة كما قلت, بل المشكلة مع النفس؛ سأفسّر لك, فكما تعلّمنا أنه إذا استرخينا أمام أنفسنا فذلك سيدفعنا إلى الكسل وإلى خرق القانون.. تعلَّمنا أن نحارب النفس ونقمعها.. وأنا، وبعد أن تعلّمت كلَّ تلك الأشياء مثل الآخرين, بقيت لسنوات طويلة أقوم بكلَّ ما تقوله لي نفسي، من باب قرار اتّخذته, ولكن هذا القرار تحوّل إلى ورطة، وثمّ تحوّل إلى مشكلة، لأنه لا يبقى أحد ليتحارب معه لضبط الاغتراب, وبالتالي يتحوَّل الانسجام فقط مع النفس, وهذه كارثة..

¶ هل كلّ ما يخبِّئه إبراهيم الجبين في دفتره الأزرق الصغير ينشره في مجموعة شعرية، أم أنَّ هناك في ذلك الدفتر الأزرق الصغير مقدّسات ممنوعة من النشر.. هل يجب أن تبقى للشاعر خصوصية معيّنة, أم تعتبر أنَّ الشاعر ملك للقارئ؟
الشاعر ليس ملكاً لأحد... أنا كتبت الكثير من الصفحات ولم أنشرها, ليس لأنها غير جديرة بالنشر. وهناك الكثير من المدوّنات احتفظت بها ذهنية ولم أكتبها, لأنه حتماً سيأتي الوقت المناسب لكتابتها.. في بحث الحرية ليست الكتابة هي التي تحرّك الكاتب, بل الكاتب هو مَن يستعمل الكتابة كواحدة من أدوات التعبير, مع أدوات تعبير أخرى موجودة كالحركة في المجتمع. فأجمل الأشياء هي التي نقوم بها وتكون لها فائدة للآخرين دون أن تكون لنا نتيجة شخصية منها. يسمّونه أحياناً بالشأن العام, لكن هو حقيقة ليس بالشأن العام، بل هو الوجود في المكان, وعندما نكون موجودين ضمن المكان يجب أن نكون مؤثّرين في المكان.

¶ أنا ضدّ مصطلح الشأن العام والشأن الخاص.. فكلّ الأشياء لها أن تكون شأناً خاصاً وفي الوقت نفسه لها أن تكون شأناً عامّاً..
وأنا أوافقك الرأي.. فالشأن العام يمكن أن يكون هو الاهتمام بالمكتبة أو الحديقة أو بالتأثير بالآخر ودفعه ليأخذ مواقف مفيدة وفعالة, أو بالمشورة أو بالاقتتال الحقيقي من أجل لوحة مثلاً..

¶ من أين يأتيك الحب كشاعر, من الداخل أم من الخارج؟ وهل يحيّرك؟
من الداخل طبعاً.. الحيرة تأتي من ذلك المزج بين داخلي أنا وداخل الآخر, الخارج لا يأتي منه شيء. الحب هو البحث عن الجواب الذي لن يكتمل.

¶ هل وفّيت الشاعر الذي في داخلك كلّ ما يريد.. وكيف تراه؟
لم أوفه شيئاً حتى الآن.. أرى الشعر كالشيخ محيي الدين ابن عربي.. الشاعر ليس صعلوكاً, وليس تلميذاً عند خبراء النقد, وهو ليس باحثاً.. الشاعر هو حالة خلق مستمرّ.. هو عناصر وبوابات تحمل تحتها عناوين الحب والصوفية، وحتى الحداثة..

¶ لكن لا يمكن أن يكون شيئاً بلا بحث؟
أنا لم أقل بلا بحث, بل قلت إنّ الشاعر ليس باحثاً.. ليست مهمة الشاعر أن يبحث عن أفضل الطرق للتعبير الشعري, بل هو يبحث في حياته والكون الذي حوله.. متطلّبات الشاعر هي التجريب..

¶ الشاعر كائن حسّاس, هكذا خلقه الله.. وسيقع في مأزق كبير عندما يحاول أن يوازن بين حسّه المرهف والواقع.. هل تعاني أنت من ذلك المأزق، أم أنك تتبع إشاراتك الحسيّة فقط؟
أنا أتبع إشاراتي الحسية فقط.. وهذا الذي يسبِّب أنني لا أعيش في زماني الحقيقي؛ أعيش في مكاني بحسب ما أنا أراه.. أعيش مع الأشخاص بحسب ما أراهم، وليس كما هم عليه, وهذا الذي يأتي عن طريق المران؛ أن يتعب الشخص على نفسه حتى يرى الآخر بحكمة؛ يعني من الأعماق, وأعماق الآخر ليست بالضرورة هي الآخر, لأنه من الممكن أن لا يراها, وهذا الذي يسبِّب الحساسية في التعامل مع المحيط الذي يتعامل معه، كما يراه، وليس كما هو؛ ولذلك عظماء الشعراء في التاريخ هم أكثرهم اغتراباً وعناءً.. فهل ذلك اسمه اغتراب؟!.. وفي النهاية، نعود إلى حوارنا مع ذواتنا...

¶ ما علاقة الاغتراب بالوحدة.. وما الفرق بين الوحدة والخلوة؟
قالوا إنَّ الوحدة عبادة.. ليس كذلك, بل هي الخلوة, وهذه الخلوة ليس الهدف منها الاكتئاب, الهدف منها إزالة كل الشوائب بيننا وبين ذواتنا. ولكن يجب أن تلحقها مرحلة أخرى هي الانفتاح تجاه الكون والحياة والآخرين.. ولكن الوصول إلى ذلك الانفتاح من الذات أو ما يسمّى مرحلة الإشراق الصوفي الحقيقي، وليس الإشراق الثقافي، هو أمر اكتشف أنه صعب, وأنا هذا ما أسعى إليه في كلِّ ما أقوم به من أعمال سواء في الشعر أم في الرواية أم الإعلام والبحث.

¶ لماذا تكتب الشعر الآن؟
أنا لا أكتب الشعر الآن من أجل أن أكون الشهيد الأضحية، كما تمّ وصف الشعراء سابقاً.. الشاعر ليس صعلوكاً، وليس نبيّاً, أنا أوثّق حياتي لا أكثر.. باتجاه البوابات التي تكلَّمنا عنها، كالحكمة والمعرفة, فكلما زادت المعرفة أكثر، أغلقت الأبواب أكثر، وليس كلما انفتحت أكثر..

¶ هذا اكتئاب...
ليس اكتئاباً, إنه انطواء...

¶ وهذا أصعب في رأيي...
¶ هل توجد حركة شعرية سوريّة؟
التجربة الشعرية السورية لم تقدِّم أيَّ شيء في الحياة الثقافية في سورية...

¶ لكنك كشاعر جزء من تلك الحركة الشعرية!..
لا.. أحياناً لا أكون جزءاً؛ فأحياناً يضعوني في التصانيف والموسوعات، وأحياناً لا أُوضع.. فهذا بحسب اعتراف الآخر بي, لكن أنا شخصياً لا أعترف بوجود تلك الحركة الشعرية السورية, بدليل نفور الناس من الشعر السوري الجديد...

¶ أنا ضدّ تصنيف الشعر أو الفن على أساس البلدان.. يكفي الصدق الفني والأدبي من أجل إيصال الحقيقة في أيِّ مكان وزمان كانت.. فمن الطبيعي أنني إن كنت صادقة في مكان فأنا سأعبِّر عنه حتماً بلا تصنيفات..
لكن تخيَّلي أن تكوني صادقة والمجتمع متخلّف, فأنت في هذه الحالة تلحقين الضرر بالمجتمع.. الشاعر والفنان والأديب والإعلامي بصدقهم هذا وفي مثل ذلك المجتمع، يقدّمون صورة كاذبة عن المجتمع, كما يتخيّلون أو كما يتمنّون..

¶ هذه شجاعة متخيَّلة؟
لا.. أنت تعيشين في مكان يجب أن تكوني فيه أكثر شجاعة.. فأنا سوري الآن، ولنفرض أنني أكتب شعراً جاهلياً, فلن أكون سورياً أعيش الآن في سورية, بل سأكون مقيماً في جزيرة العرب.. الوصفة التي عملت عليها أنا, أنني أكتب عن الأمكنة التي أعيشها، وعن الناس الموجودين في هذه الأمكنة.. هذا هو الصدق.. وأنا أؤكّد وجوب التصنيفات بحسب البلدان, فحتماً أنَّ شاعراً في فلسطين مثلاً أو في مكان الحرب لن يعبِّر عن الحب مثل آخر في بلد ينعم بالسلام..

مشاريع جديدة

أنا أعمل على رواية تتناول سورية من خلال نوافذ, هذه النوافذ هي لوحات نطلّ من خلالها على الحياة التشكيلية لفنانين تشكيليين موجودين في سورية.. كما أدرس الآن عروضاً من عدد من المحطات العربية من أجل برنامج تلفزيوني.. مشروعي القادم هو برنامج حواري اسمه «الآخر», سيكون الآخر فيه من شرائح مجتمعية متنوعة.. صدر لي كتاب «لغة محمد».. كتاب «يعبر اليمّ».. رواية «يوميات يهودي من دمشق».. وهذا الديوان الأخير «تنفّس هواءها عني»..